الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)
فالمفعول الثاني من علما محذوف، لأن قوله أن العشيرة في موضع مفعول علما الأول، وتقدير الكلام قد علما أن العشيرة سوى محضري من حاضرين وغيب لا غناء عندهم، أو سواء حضورهم وغيبتهم، أو ما جرى هذا المجرى.ومن هذا الضرب أيضاً حذف المفعول الوارد بعد المشيئة والإرادة كقوله تعالى: {لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} فمفعول شاء هاهنا محذوف، وتقديره ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها.وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} ومما جاء على مثال ذلك شعرا قول البحتري: الأصل في ذلك: لو شئت ألا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه في الثاني.وقد تقدم أن من الواجب في حكم البلاغة ألا تنطق بالمحذوف ولا تظهره إلى اللفظ ولو أظهرت لصرت إلى كلام غث.ومجيء المشيئة بعد لو وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء كثير شائع بين البلغاء ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد حتى إنهم لا يكادون يبرزون المفعول، إلا في الشيء المستغرب، كقوله تعالى: و{لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء} على هذا الأسلوب جاء قول الشاعر: فلو كان على حد قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} لوجب أن يقول: ولو شئت لبكيت دما، ولكنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنه أليق في هذا الموضع، وسبب ذلك أنه كان بدعا عجيبا أن يشاء الإنسان أن يبكي دما، فلما كان مفعول المشيئة مما يستعظم ويستغرب كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر.
أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن والأوغام: أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيره، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.أما حذف المضاف إليه فإنه قليل الاستعمال: {لله الأمر من قبل ومن بعد} أي: من قبل ذلك ومن بعده.وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه، كقوله تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} قيل: أراد ظهر الأرض فحذف المضاف إليه وليس كذلك، وفإن الهاء والألف قائمة مقام الأرض، ألا ترى أن قوله: {ظهرها} يريد الأرض، لأنه ضمير راجع إليها.وكذلك ورد قول جرير:
فقوله على اصفرار أي: على فرس أصفر، وهذا مفهوم من قرينة الحال، لأنه لما قال على اصفرار علم بذلك أنه أراد فرسا أصفر.والصفة تأتي في الكلام على ضربين: إما للتأكيد والتخصيص، وإما للمدح والذم، وكلاهما من مقامات الإسهاب والتطويل، لا من مقامات الإيجاز والاختصار، وإذا كان الأمر كذلك لم يلق الحذف به، هذا، مع ما ينضاف إليه من الالتباس وضد البيان، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بطويل لم يبن من هذا اللفظ الممرور به إنسان هو أم رمح أم ثوب أم غير ذلك، وإذا كان الأمر على هذا فحذف الموصوف إنما هو شيء قام الدليل عليه أو شهدت به، وإذا استبهم كان حذفه غير لائق.ومما يؤكد عندك ضعف حذفه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه، وذاك أن تكون الصفة جملة، نحو: مررت برجل قام أبوه، ولقيت غلاما وجهه حسن، ألا تراك لو قلت: مررت بقام أبوه، ولقيت وجهه حسن، لم يجز.وقد ورد حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير موضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} فإنه لم يرد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء، وإنما يريد آية مبصرة، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.ولقد تأملت حذف الموصوف في مواضع كثيرة فوجدت أكثر وقوعه في النداء وفي المصدر، أما النداء فكقولهم يا أيها الظريف، تقديره: يا أيها الرجل الظريف، وعليه ورد قوله تعالى: {يا أيها الساحر} تقديره: يا أيها الرجل الساحر، وكذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} تقديره: يا أيها القوم الذين آمنوا، وأما المصدر فكقوله تعالى: {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} تقديره: ومن تاب وعمل عملا صالحا.وقد أقيمت الصفة الشبيهة بالجملة مقام الموصوف المبتدأ في قوله تعالى: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} أي: قوم دون ذلك.وأما حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها، فإنه أقل وجودا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، ولا يكاد يقع في الكلام إلا نادرا، لمكان استبهامه.فمن ذلك ما حكاه سيبويه رحمه الله من قولهم: سير عليه ليل، وهم يريدون ليل طويل، وإنما حذفت الصفة في هذا الموضع لما دل من الحال عليه، وذاك أنه يحسن في كلام القائل لذلك من التصريح والتطويح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل، وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته، وهو أن يكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: كان والله رجلا أي رجلا فاضلا، أو شجاعا أو كريما، أو ما جرى هذا المجرى من الصفات، وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنسانا أي إنسانا سمحا أو جوادا، أو ما أشبهه، فعلى هذا ونحوه تحذف الصفة، فأما إن عريت عن الدلالة عليها من اللفظ أو الحال فإن حذفها لا يجوز.وقد تأملت حذفها فوجدته لا يسوغ إلا في صفة تقدمها ما يدل عليها، أو تأخر عنها، أو فهم ذلك من شيء خارج عنها.أما الصفة التي تقدمها ما يدل عليها فقوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} فحذف الصفة: أي كان يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا، ويدل على المحذوف قوله: {فأردت أن أعيبها} فإن عيبه إياها لم يخرجها عن كونها سفينة، وإنما المأخوذ هو الصحيح دون المعيب، فحذفت الصفة هاهنا لأنه تقدمها ما يدل عليها.وأما التي تأخر عنها ما يدل عليها فقول بعض شعراء الحماسة: فإنه أراد كل امريء متزوج، إذ دل عليه ما بعده من قوله: ستئيم منه أو منها يئيم إذ لا تئيم هي إلا من زوج ولا يئيم هو إلا من زوجة، فجاء بعد الموصوف ما دل عليه، ولولا ذلك لما صح معنى البيت، إذ ليس كل امريء يئيم من عرس إلا إذا كان متزوجا.وأما ما يفهم حذف الصفة فيه من شيء خارج عن الكلام فقول النبي: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فإنه قد علم جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد من غير هذا الحديث، فعلم حينئذ أن المراد به الفضيلة والكمال، وهذا شيء لم يعلم من نفس اللفظ، وإنما علم من شيء خارج عنه.
فلو في البيت الثاني محذوفة، لأنها في البيت الأول قد استوفت جوابها بقوله لم تستبح إبلي ثم حذفها في الثاني، وتقدير حذفها إذا لو كنت منهم لقام بنصري معشر خشن، وإذا لو كانوا قومي لقام بنصري معشر حسن.وأما حذف جواب لو فإنه كثير شائع وذلك كقولك: لو زرتنا لو ألممت بنا، معناه لأحسنا إليك، أو لأكرمناك أو ما جرى هذا المجرى.ومما ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} فإن جواب لو هاهنا محذوف، تقديره: لرأيت أمرا عظيما، وحالا هائلة أو غير ذلك مما جرى مجراه.ومما جاء على نحو من هذا قوله عزوجل: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون} تقديره لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه، وهو وقت صعب شديد تحيط بهم النار من وراء وقدام ولا يقدرون على دفعها عن أنفسهم ولا يجدون ناصرا ينصرهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عليهم.ومما يجري على هذا النهج قوله تعالى: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} فجواب لو في هذا الموضع محذوف، كما حذف في قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} أي: لو أن لي بكم قوة لدفعتكم، أو منعتكم، أو ما أشبهه، وكذلك قوله: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} لكان هذا القرآن.وهذا الضرب من المحذوفات أظهر الضروب المذكورة وأوضحها، لعلم المخاطب به، لأن قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} يتسارع الفهم فيه إلى أن الكلام يحتاج إلى جواب.ومما جاء منه شعرا قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه مدينة عمورية: فإن هذا محذوف الجواب، تقديره: لو يعلم الكفر ذلك لأخذ أهبة الحذار، أو غير ذلك.واعلم أن حذف هذا الجواب لا يسوغ في أي موضع كان من الكلام وإنما يحذف ما دل عليه مكان المحذوف، ألا ترى أنه قد ورد في القرآن الكريم غير محذوف، كقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} وهذا ليس كالذي تقدم من الآيات، لأن تلك علم مكان المحذوف منها، وهذه الآية لو حذف الجواب فيها لم يعلم مكانه، لأنه يحتمل وجوها، منها أن يقال: لما آمنوا، أو لطلبوا ما وراء ذلك، وقد تقدم القول في أول باب الإيجاز أنه لا بد من دلالة الكلام على المحذوف.
وهذا قد حذف منه خبر المبتدأ، إلا أنه مفرد غير جملة، وتقديره كل عذر من كل ذنب مقبول، أو مسموع، أو ما جرى هذا المجرى.
أي لا أبرح قاعدا، فحذفت لا في هذا الموضع وهي مرادة.ومما جاء منه قول أبي محجن الثقفي لما نها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن شرب الخمر، وهو إذ ذاك في قتال الفرس بالقادسية: يريد لا أشربها فحذف لا من الكلام وإثباتها.وأحسن حذوفها في المعطوف والمعطوف عليه، وإذا لم يذكر الحرف المعطوف به كان ذلك بلاغة وإيجازا، كقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان أصحاب رسول الله ينامون ويصلون ولا يتوضئون، أو قال ثم يصلون لا يتوضئون، فقوله لا يتوضئون بحذف الواو أبلغ في تحقيق عدم الوضوء من قوله ولا يتوضئون بإثباتها كأنه جعل ذلك حالة لهم لازمة: أي أنها داخلة في الجملة، وليست جملة خارجة عن الأولى، لأن واو العطف تؤذن بانفراد المعطوف عن المعطوف عليه، وإذا حذفت في مثل هذا الموضع صار المعطوف والمعطوف عليه جملة واحدة.وقد جاء في القرآن الكريم وذلك أنه يذكر جمل من القول كل واحدة منها مستقلة بنفسها، ثم تسرد سردا بغير عاطف، كقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} تقدير هذا الكلام: لا يألونكم وودوا ما عنتم وقد بدت البغضاء من أفواههم، فلما حذفت الواو جاء الكلام أوجز وأحسن طلاوة وأبلغ تأليفا ونظما، وأمثاله في القرآن الكريم كثير.
|